عصر الذكاء الاصطناعي والاعتماد المفرط على الآلة

عبيدة النبواني

شاهدنا في العامين الماضيين تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل ملحوظ ومتسارع، خاصة منذ إطلاق شركة OpenAI لبرنامج الذكاء الاصطناعي الشهير ChatGPT، والذي شكل نقلة نوعية في مجال برامج التعرف على النصوص، وقد بات الذكاء الاصطناعي اليوم واقعا لا مفر منه، ومن الطبيعي أن يقابل بالرفض من قبل البعض، حاله كحال معظم التغييرات الثورية التي شهدها البشر. لكن لا مجال لإيقاف عجلة التطور أو إعادتها إلى الوراء.

دولي | أسلوب حياة | 2024-10-14
قيِّم هذا الموضوع: 4.75

هل سبق أن شاهدت فيلم (Her) للمخرج الأمريكي سبايك جونز؟ يتحدث الفيلم الذي صدر عام 2013 عن تطور البرمجيات الحديثة وبرامج الدردشة الذكية لتصبح قادرة على التفاعل مع المستخدمين كتابةً وتحدثاً بطريقة شبه بشرية. إلا أن هذه المحاكاة الدقيقة للسلوك البشري، تؤدي إلى وقوع كاتب شاب (يؤديه خواكين فينكس) بالحب مع برنامج الدردشة.

قد يبدو ذلك مبالغة سينمائية بعيدة المنال ومن الصعب أن تحدث في العالم الحقيقي، لكنها تحدث حقا في وقتنا الحالي، فالعديد من الحسابات الحالية على تطبيق "إنستغرام" مثلا هي حسابات مولدة بالذكاء الاصطناعي لأشخاص غير حقيقيين، مثل المغربية كنزة ليلي وشقيقتها الافتراضية زينة وشقيقهما مهدي، وجميعها حسابات غير حقيقية مولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي.

شاهدنا في العامين الماضيين تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل ملحوظ ومتسارع، خاصة منذ إطلاق شركة OpenAI لبرنامج الذكاء الاصطناعي الشهير ChatGPT في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2022، والذي شكل نقلة نوعية في مجال برامج التعرف على النصوص، لتتبعها لاحقا شركات كبيرة أخرى مثل مايكروسوفت وبرنامجها Copilot وجوجل مع Gimini وغيرها، ورغم أن استخدامات الذكاء الاصطناعي في الحقيقة تذهب أبعد من ذلك بكثير، إلا أن المستخدم العادي للانترنت لن يتعامل بشكل مباشر غالبا إلا مع بعض هذه التطبيقات المتاحة للجميع.

 

سيفٌ بحدين

قبل الخوض في غمار الآثار السلبية التي قد تترتب على الاستخدام المفرط لأدوات الذكاء الاصطناعي، لا بد من ذكر الإيجابيات التي لا يمكن إنكارها، والتي قد يمكن أن تساعد في إيجاد حلول لمشاكل عجزت البشرية عن حلها لعقود أو قرون.

في الوقت الحالي، يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي أتمتة المهام المتكررة ومعالجتها بشكل أسرع، ودقة أعلى من البشر، مما يوفر الوقت والجهد ويُعزز الإنتاجية. كذلك فإن أدوات الذكاء الاصطناعي يمكنها أن تحلل كميات هائلة من البيانات وأن تُقدم تنبؤات تساعد على اتخاذ قرارات أفضل. إضافة إلى خلقها فرصاً جديدة عبر إتاحة المجال لابتكار منتجات وخدمات جديدة لم تكن ممكنة في السابق.

تُساهم أدوات الذكاء الاصطناعي أيضا في تخصيص تجربة العملاء من خلال تقديم توصيات وتفاعلات مُخصصة، مما يُحسّن من رضاهم وولائهم، كما يمكنها  خفض التكاليف من خلال أتمتة المهام وتقليل الأخطاء وتحسين كفاءة العمليات.

بالمقابل، قد تؤدي أدوات الذكاء الاصطناعي إلى فقدان الوظائف، خاصة في المهام المتكررة التي يمكن أتمتتها بسهولة، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة انتشار البطالة، إذ أنها ستساهم في الوقت ذاته في خلق فرص عمل جديدة، مثلما حدث سابقا عند انتشار المكننة الصناعية أو الإنترنت.

تعتمد برامج الذكاء الاصطناعي على كميات كبيرة من البيانات التي يتم تدريبها عليها، لكن وجود تحيز في هذه البيانات قد يؤدي بالنتيجة إلى ظهور هذا التحيز في النتائج، وقد ظهر ذلك في بعض عمليات التوظيف التي اعتمدت على برامج ذكاء اصطناعي لغربلة الطلبات المقدمة، لكن بعض هذه البرامج أظهرت أنماطا من التحيز كتفضيل الرجال على النساء، أو البيض على السود، أو استبعاد الأسماء الأجنبية، أو غير ذلك.

بالإضافة إلى ذلك، فإنه من الصعب فهم كيفية عمل بعض أدوات الذكاء الاصطناعي، وأسباب اتخاذها قرارات معينة، ما قد يُثير قلقًا بشأن الشفافية والمساءلة، إضافة إلى وجود مخاوف أخلاقية حول استخدامها في مجالات مثل المراقبة والتجسس والحروب.

 

العضو الذي لا يستخدم يضمر

قد يؤدي الاعتماد المفرط على أدوات الذكاء الاصطناعي إلى إضعاف المهارات والقدرات البشرية، مما قد يُشكل خطرًا في المواقف التي تتطلب تدخلًا بشريًا، كما قد يُشكل خطراً على تنمية المهارات والقدرات البشرية على المدى الطويل، وهو ما قد يصل إلى فقدان مهارات كاملة لدى الجنس البشري في المستقبل.

على سبيل المثال، قد تُؤدي أدوات الذكاء الاصطناعي التي تُحلل البيانات وتُقدم حلولًا جاهزة إلى إضعاف مهارات التفكير النقدي والتحليل وحلّ المشكلات لدى البشر، كما قد تُقلّل أدوات الذكاء الاصطناعي التي تُقدم اقتراحات وتصاميم جاهزة كأدوات تحويل النصوص إلى صور أو فيديوهات مثل (MidJourney) و(Dall-e 2) و(Sora) من فرص الإبداع والابتكار البشري. إضافة إلى قدرة هذه الأدوات على تأليف قصص أو قصائد أو مقطوعات موسيقية.

يمكن أن يؤدي الاعتماد على أدوات التواصل الآلي والتفاعلات المُبرمجة إلى إضعاف المهارات الاجتماعية والقدرة على التواصل والتفاعل بشكل فعّال مع الآخرين، خاصة لدى الأطفال، إذ يُمكن أن تُؤدي أدوات التدريس المُبكرة المُعتمدة على الذكاء الاصطناعي إلى تقليل دور المعلم في العملية التعليمية، مما قد يحرم الطلاب من التفاعل البشري والتوجيه المُباشر، الأمر الذي يمكن أن يقود إلى شعور بالاكتئاب والانفصال عن الواقع، حيث وجدت دراسة نشرت في مجلة "Science" عام 2017 أن استخدام روبوتات الدردشة قد يُؤدي إلى الشعور بالوحدة والانعزال لدى الأفراد، ممّا قد يُؤثّر سلبًا على صحتهم.

ولا يقتصر تأثير الإفراط في استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي على الآثار النفسية والذهنية، بل يمكن أن يؤثر أيضا على المهارات الحركية لدى البشر، إذ قد تُؤدي أدوات الأتمتة والروبوتات إلى تقليل الحاجة إلى المهارات الحركية واليدوية، كتراجع مهارات الأطباء في إجراء العمليات الجراحية بسبب الاعتماد على الروبوتات.

وقد أظهرت بعض الدراسات مثلا تراجع مهارات الكتابة اليدوية منذ بدء انتشار الهواتف الذكية، وهي مهارة قد تنقرض في الأجيال القادمة من البشر. ورغم أن هذه المهارة قد لا تبدو مهمة في عصر التطور الرقمي، إلا أن الكتابة اليدوية تنشط أجزاء أكبر من الدماغ وتساعد على التعلم والتذكر بشكل أفضل وفق دراسة أجرتها جامعة النرويج للعلوم والتكنولوجيا (NTNU)، وكذلك هو الأمر بالنسبة لكافة المهارات اليدوية.

 

البحر من ورائكم

يُقال إن طارق بن زياد عندما أراد دخول إسبانيا عام 711م، أحرق سفنه بعد عبور البحر، وقال لجنوده جملته الشهيرة: "أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم"، ويقال إن جنوده قاتلوا حينها ببسالة وانتصروا في معاركهم لعلمهم أنه لا طريق للرجوع. وبغض النظر عن الشكوك حول صحة هذه الرواية تاريخيا، لكننا اليوم في موقف مماثل.

بات الذكاء الاصطناعي اليوم واقعا لا مفر منه، ومن الطبيعي أن يقابل بالرفض من قبل البعض، حاله كحال معظم التغييرات الثورية التي شهدها البشر. لا مجال لإيقاف عجلة التطور أو إعادتها إلى الوراء، لذلك فإن الحل الأنسب هو التأقلم معها ومحاولة الاستفادة منها بدل الاستسلام لها أو رفضها.

واليوم نشهد بأعيننا "ثورة عصر الذكاء الاصطناعي" باعتبارها تحولا جذريا في تاريخنا، مثلما كان اكتشاف النار، والكهرباء، والثورة الصناعية، واختراع الانترنت. ثورة تفتح باباً واسعاً للمستقبل أمام الجنس البشري لم نكن نتخيل وجوده قبل بضع عقود ولا نعرف ما يخفيه، فلنعبره بحذر، ولنحاول ألا نقع في الحب إلا مع أشخاص حقيقيين.
 

 


العلامات: #ذكاء_اصطناعي, #كمبيوتر, #برمجة, #Chat_GPT, #إنستغرام, #Gimini, #Copilot, #أتمتة, #تحليل_البيانات, #بطالة, #MidJourney, #أطفال, #تعليم, #تطور, #تكنولوجيا, #إنترنت


مقالات مشابهة

We have send a confirmation code to your email address, pleas enter the code here

Confirm