لماذا يدفعنا التعاطف مع الآخرين إلى الإحساس بالذنب

عبيدة النبواني

تمكن البشر خلال تطورهم من تعزيز قدراتهم على التعاطف مع سواهم لتصبح سمة إنسانية تميزهم عن بقية الكائنات، إلا أن هذا التعاطف حين يترافق مع العجز عن التغيير قد يصير مضراً ومتعباً على الصعيدين النفسي والجسدي، لنجد أنفسنا أمام سؤال متكرر ، "ما هي الفائدة من كل ما نقوم به؟".

قيِّم هذا الموضوع: 4

فتحت الحرب في غزة، والعدوان الإسرائيلي على لبنان أمامي بابا واسعا من المشاعر المتضاربة التي كنت أعتقد أني قد تغلبت عليها منذ سنوات، لتضعني على تماس مباشر مع مشاعر الغضب والنقمة والعجز أمام جنون عالمي غير منطقي وغير مفهوم.

حاولت في السنوات السابقة أن أنأى بنفسي عن الأخبار السياسية وخاصة تلك التي تتعلق بسوريا، فابتعدت عن العمل الصحفي بسبب شعور العجز نفسه، وكنت أحسب أني بعد سنوات من التعامل مع معاناة السوريين ومحاولة نقلها للعالم بكل الطرق المتاحة دون جدوى، أني بتُّ محصنا من تأثير أي خبر في أي مكان بالعالم. لكن طريقة التعامل الدولي مع الحرب في غزة ولبنان والسودان، ووقوف الحكومات الغربية والعربية على حد سواء في صف طرف لا مجال لإنكار إجرامه جعلاني أعود إلى نقطة البداية، وكأن الأزمات السابقة لم تعلمني شيءً، بل كأنها تركت جرحا غير مندمل انفتق بسهولة مع أول أزمة جديدة.

تمكن البشر خلال تطورهم من تعزيز قدراتهم على التعاطف مع سواهم، لتصبح سمةً إنسانية تميزهم عن بقية الكائنات التي قد تميل إلى مساعدة الأفراد الأكثر ضعفا؛ لكنها لا تضَحي بنفسها وسلامتها لمساعدة أفراد آخرين من المجموعة، بينما قد يصبح التعاطف عند البشر مضراً ومتعباً على الصعيدين النفسي والجسدي، وهو ما يعرف بـ "إرهاق التعاطف" (Compassion Fatigue)، والذي تم تعريفه بشكل أكبر من قبل عالم النفس الأمريكي تشارلز فيجلي، الذي يصفه بأنه "حالة من الإرهاق والاختلال الوظيفي، عضوياُ وعاطفيًا، ينتج عن التعرض لمشاكل الآخرين والتعاطف معها لفترات طويلة".

حسب موقع "PsychologyToday" يمكن للأشخاص الذين تتطلب مهنتهم التعامل لفترات طويلة مع صدمات الآخرين (مثل العاملين في مجال المساعدات الإنسانية؛ والرعاية الصحية؛ والمدافعين عن ضحايا العنف المنزلي؛ والصحفيين على الخطوط الأمامية للحرب والكوارث) أن يكونوا عرضة للإصابة بإرهاق التعاطف أو الصدمة غير المباشرة، وقد يعانون من أعراض حادة تؤثر على صحتهم البدنية والعقلية. وكلما انفتح هؤلاء الأفراد على آلام الآخرين، كلما زادت احتمالية تبنيهم لمشاعر الضحايا من الحزن والألم، مما يجعلهم حذرين من العطاء والرعاية ويقودهم إلى تجنب الأخبار والانعزال الاجتماعي.

في مثل هذه الحالات يشعر الشخص أن التعاطف وحده لا يكفي، خصوصا في مثل هذه الأيام التي نعايش فيها أزمات إنسانية كبرى كالعدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، وما يحدث في سوريا ومصر والسودان وغيرها، يضاف إليها أزمات أخرى مثل التغير المناخي، والنمو المتزايد للأحزاب اليمينية في الغرب، وفي كثير من النقاشات حول ما يجب أن نقوم به حيال أي من هذه الأزمات يواجهنا دائما سؤال واحد، "ما هي الفائدة من كل ما نقوم به؟".

هذا السؤال لم يكن مطروحا في بداية أي من هذه الأزمات، بل كان معظم الناس يحاولون القيام بشيء ما مهما كان صغيرا، كجمع التبرعات، والحديث عما يحدث على وسائل التواصل الاجتماعي، والمشاركة في المظاهرات. لكن الخذلان وعدم الإحساس بوجود نتيجة لهذه الأفعال دفع الكثيرين منا إلى الامتناع عن المحاولة لاحقا بسبب شعورنا أننا عاجزون عن التغيير، وهذا هو ما يسمى في علم النفس بـ "العجز المكتسب".

ظهر مصطلح العجز المكتسب (Learned Helplessness) على يد البروفيسور الأمريكي مارتن سيليجمان الذي يعتبر أحد مؤسسي ما يعرف بـ "علم النفس الإيجابي" عام 1967، ووصفه بأنه حالة نفسية تتطور لدينا عندما نعتقد أننا غير قادرين على التغيير، حتى عندما تكون لدينا القدرة على ذلك. وتَعتبر "الجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA)" أن العجز المكتسب يحدث عندما نواجه مواقف مرهقة لا يمكننا السيطرة عليها بشكل متكرر، ما يدفعنا إلى عدم المحاولة لاحقا.

لهذا النوع من العجز أسباب كثيرة أهمها التجارب السلبية المتكررة، والعيش في بيئة سلبية أو غير داعمة، وتفسير الأحداث السلبية على أنها دليل على العجز الشخصي بدلاً من النظر إلى العوامل الخارجية. وقد يظهر هذا العجز بأشكال مختلفة أيضا مثل تراجع الثقة بالنفس، وفقدان الدافع والحماس، وتجنب المواقف التي نعتقد أنها قد تقودنا إلى الفشل، كما يمكن أن يؤدي إلى مشكلات في الصحة العقلية مثل الاكتئاب والقلق.

الجيد في الأمر، هو أن الشعور بالعجز و الإرهاق هو حالة طبيعية يمكن أن تصيب الجميع، فإذا كنت قد شعرت بهذا النوع من العجز فاعلم أنك لست وحيدا، وأن هذا الشعور قابل للتغيير، ويمكن التغلب عليه من خلال خطوات صغيرة كتحديد أهداف قابلة للتحقيق والاحتفال بالنجاحات، وتحديد وقت لمشاهدة الأخبار ومتابعة مواقع التواصل الاجتماعي، وبممارسة الرياضة، والحصول على قسط كاف من النوم والراحة.

شارك الأخبار والصور، وتحدث عن الأزمات الكبرى، لكن لا تشعر بالذنب وابتعد حين تحس بالتعب. ابحث عن الدعم مع العائلة والأصدقاء، وإذا كنت تشعر أنك تعاني من الإرهاق والعجز بشكل كبير، فلا تتردد في الحديث مع متخصص في الصحة النفسية، فالأمر الأهم دائما هو أن تحافظ على صحتك، وأن تساعد نفسك أولاً؛ لتكون قادرا على مساعدة الآخرين.

تلك بعض الخطوات التي قد تساعدنا في التغلب على مشاعر العجز، ومن المهم أن ندرك أننا ما نزال قادرين على التأثير في أكبر الأزمات مهما كانت، لكن الاعتقاد أننا كأفراد سنستطيع إحداث تغيير ملحوظ وحدنا هو مجرد أمل طفولي، إلا أن هذه الجهود الصغيرة ليست عديمة الجدوى، فأنا وأنت لسنا وحدنا، بل نحن جزء من ملايين الأشخاص حول العالم ممن يشعرون مثلنا بالعجز، لكنهم يقومون بأمور صغيرة مشابهة، ولابد أننا معا سنكون قادرين على إحداث تغيير ما.
 

 


العلامات: #أزمات, #حرب, #إرهاق, #تعاطف, #عجز, #غزة, #فلسطين, #إسرائيل, #لبنان, #صدمة_نفسية, #علم_النفس, #عنف, #صحافة, #كوارث, #علم_النفس_الإيجابي


مقالات مشابهة

We have send a confirmation code to your email address, pleas enter the code here

Confirm