"ناجية من السرطان مع مرتبة التحدي"، هكذا تُعرّف نسرين الدنان (44 عاما) عن نفسها، وهي التي تختزل في ملامحها رحلة تحديها المستمرة لمرض سرطان الثدي والتي تجاوزت إلى اليوم 15 عملية جراحية بسبب انتشاره في أماكن أخرى، لكنها تتعايش معه بطريقة ملهمة حتى يظنُ من يراها أن مرضها مجرد صداع عابر.
نسرين سيدة سورية تقيم في مدينة غازي عنتاب التركية منذ عام 2015، قدمت مع زوجها وأطفالها الأربعة وأصغرهم لم يكمل عامه الأول. كانت قد تزوجت في سن صغيرة فلم تكمل دراستها واكتفت بالشهادة الإعدادية، وقبل أن تبلغ الأربعين اكتشفت إصابتها بسرطان الثدي لأول مرة عام 2019.
القوة والإصرار في مواجهة المرض
لم تشعر نسرين بأي أعراض على الإطلاق، لكنها وبسبب الحملات التي دعت إلى الكشف المبكر عن سرطان الثدي في شهر أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019 ذهبت مع عدد من صديقاتها وجاراتها للكشف، لتكتشف إصابتها وتبدأ معها رحلة العلاج الطويلة، وتذكر نسرين كم كان ذلك الوقت قاسيا عليها في البداية، أربعة أطفال صغار، والدا زوجها الكفيفين والكل يحتاج رعايتها كما هي تحتاج إليهم.
رغم كل ذلك، لم يكن تشخيص إصابتها بسرطان الثدي نهاية العالم بالنسبة لها، فبعد التشخيص وفترة العلاج الكيماوي اضطرت في النهاية إلى إجراء عملية لاستئصال ثدييها. "لقد تحضرت نفسيا كثيرا كي لا أخاف من فقدان جزء من جسدي، وحاولت أن أنظر إلى ذلك كخطوة نحو الشفاء والتجدد". كانت تواجه العلاج الإشعاعي بشجاعة، تعرف أن كل شعاع يمر عبر جسدها هو معركة جديدة تنتصر فيها.
لم تهتز عزيمتها عندما تعرضت لبعض التعقيدات واضطرت إلى إجراء عمليات إضافية، كانت كل جراحة بمثابة فرصة جديدة لتظهر قوتها، فأثبتت لنفسها ولعائلتها ومعارفها امتلاكها إرادة لا تقهر. كانت ترى في كل تحدٍ فرصة لتجديد الأمل، وللتأكيد بأن الحياة تستحق أن تُعاش بكل تفاصيلها. بوجه ضاحك تقول مازحة إنها كانت ترغب بخسارة بعض الكيلوغرامات وهذا ماحدث خلال مرضها، وتتساءل: "ألا يمكن اعتبار ذلك شيءً إيجابياً!".
فتحت هذه المعركة عيني نسرين على صورة مختلفة للحياة، أصبح للحظات معنى أعمق، ولعلاقتها بجسدها وأنوثتها لغة جديدة، لم يخبرها أحد من الأطباء بدنو أجلها طبيا لكنها قررت أنه أياً كان عدد العمليات التي ستجريها ما بين جراحة علاجية لاستئصال الورم أو جراحة ترميمية؛ فهي لن تستسلم وستستغل كل لحظة مع أبنائها ليكونوا أكثر قوة، ولتصنع معهم ذكريات سعيدة برفقتها.
دعم الأسرة والعمل التطوعي
رغم تحديات المرض الذي اضطرها إلى الخضوع لـ 15 عملية جراحية والتغيب عن أسرتها لأيام أو أسابيع في كل مرة. كانت نسرين أماً مُحبة بتفانيها غير المحدود لأبنائها (صبيان (10 و 15 عاما) وفتاتان (12 و 14 عاما)، كانوا مصدر إشراق في حياتها يدفعونها إلى الأمام في كل خطوة. كانت تعتبر رعايتها لهم واجباً مقدساً، تزرع في نفوسهم التعاون والمحبة لبعضهم. ليس ذلك فحسب، بل كانت ترعى والدي زوجها الضريرين بكل حب وحنان كأنهما والداها، مضيفة بذلك بعداً إنسانياً آخر لحياتها المليئة بالعطاء.
كان زوجها شريكا داعما ومحبا لها في هذه الرحلة، يقف بجانبها في كل لحظة، وكان يرى فيها المرأة التي تحدت كل الظروف دون أن تفقد جاذبيتها أبداً، وكانت كلماتُه مصدر طمأنينة لقلبها، تزرع فيها الثقة وتُلهب حماستها لمواصلة الكفاح.
نسرين كانت مؤمنة أن سلاحها هو معنوياتها العالية معتبرة أن السرطان هو مجرد مرض كأي مرض آخر، كانت ممتنة أنها تستطيع الحصول على العلاج وأنها ستعيش متمسكة بالحياة ما استطاعت حتى آخر رمق. كل هذه الأسباب دفعتها لاتخاذ قرارها في البدء بعمل منزلي من خلال تحضير مؤونة المنزل السورية وبيعها. كانت تستغل أيام صحتها في العمل لتكون المنتجات متوفرة حتى في مرضها، كانت تعد المؤونة بأصنافها المختلفة وهي تحكي لأطفالها ذكرياتها في سوريا مع أيام المؤونة، تحاول أن ترسم من خلال أطباقها لوحات حب وأمل لأبناء وطنها في بلاد اللجوء. لم يكن عملها مجرد وسيلة لكسب العيش، بل هو رسالة حب وتضامن تبعثها لكل من حولها، تحاول أن تشتري بما تجنيه مستلزمات وهدايا لصغارها لتبقى معهم إن انتهت رحلتها، محاولة أن تجعلهم متقبلين لفكرة الحياة والموت، وهذا لا يعني الاستسلام أبدا، لكنها تفضل أن تكون واقعية وإيجابية.
تطوعت نسرين أيضا ضمن حملات التوعية بضرورة الكشف المبكر عن سرطان الثدي ودعم مرضى السرطان التي تجريها منظمات المجتمع المدني في مدينة غازي عنتاب، تلتقي بالمرضى وتعتني بهم قدر استطاعتها، محاولةً حثهم أن يبقوا متمسكين بالأمل عبر مشاركتهم قصتها، فربما يخفف هذا عنهم كما يحدث معها.
التمسك بالأمل لم يكن سهلا عليها دائما، فترات العلاج المتكررة وقسوته وتجدد انتشار المرض، خاصة مع ضغوط الحياة المختلفة، كانت تطفئ شعلة روحها في أوقات عديدة، لكنها تعود وترفض الاستسلام وتتابع علاجها. تحب الحياة في تركيا وتخشى أن تتم إعادة اللاجئين السوريين إلى سوريا في ظل الظروف الحالية وافتقاد أهم مقومات الحياة هناك.
قصة نسرين الدنان ليست مجرد حكاية تحدٍ للمرض؛ بل هي ملحمة تُظهر كيف يمكن للحب والأمل أن يضيئا طريقنا، مهما كانت الصعاب. هي امرأة جعلت من الألم لوحةً فنية مبينة للعالم أن القوة الحقيقية تكمن في الحب والإيمان بالحياة والرضا بواقعيتها رغم ذلك.
العلامات: #لجوء, #مرض, #سرطان, #سرطان_الثدي, #علاج, #جراحة, #تطوع, #أطفال, #عمل_منزلي, #مؤونة, #توعية, #علاج_كيماوي, #علاج_إشعاعي, #أمل, #تركيا_