عندما أمطرت السماء توتاً وزيزفوناً

ديما شلار

مشوار مع مي الحمصي إلى حديقة "هايري توتونجلار" في غازي عينتاب

قيِّم هذا الموضوع: 5

"يا زيزفونة ع نهر العاصي.. يا زيزفونة شو قلبك قاسي" بهذه الكلمات تصف مي الحمصي (40 عاماً) علاقتها بأشجار الزيزفون في حديقة عامة وسط مدينة غازي عنتاب التركية. مي، صحفية سورية اضطرت للانتقال من مدينتها حمص وسط سوريا إلى تركيا قبل أحد عشر عامًا، لتجد في هذه الحديقة ملاذًا يعيدها إلى ذكريات ماضٍ بعيد.

تقول مَي: "بدأت علاقتي مع حديقة 'Hayri Tütüncüler' يومَ عملٍ اعتيادي في حياة صحفية سورية. يوم مثقل بسيلٍ من الأخبار المحبطة والموت المجاني للسوريين، قصفاً أو غرقاً أو تحت ركام منازلهم المدمرة". في زحمة تلك الأحداث، لا تتذكر مي بوضوح ما هو الخبر الذي أضفى عليها شعوراً بالاختناق لم تستطع تجاوزه وقتها. إلا أنها تتذكر جيدا أنه كان بعد وقت قصير من زلزال السادس من شباط 2023، الذي ضرب مدناً سوريةً وتركيةً من بينها غازي عنتاب، متسببا بمقتل أكثر من 50 ألف شخص وتدميرِ أحياء بأكملها.

"تحت ضغوط الحياة اليومية المعقدة كلاجئة، شكلت الحديقة المزروعة بأشجار الزيزفزن والتوت نقطة ضوء في ظلمة اليوم"، تقول مي لمنصة ديوان مضيفة: "خرجتُ يومها من مكان عملي دون وُجهة واضحة، لأجد نفسي أتبع ممراً ترابياً مرصوفاً بالحجارة، محاطة بأشجار زيزفون يزيد عمرها على عشرين عاماً. تختطفني رائحة الزيزفون، تأخذني أبعد مما أتصور، تعيدني إلى حي الوعر في حمص، وتجعلني أرى وجوه أصدقائي وأهلي. حينها فقط، أشعر أني لست لاجئة غريبة في مدينة غريبة".

تتأمل مي غصناً من شجرة زيزفون اعتادت تزيين مكتبها به، وتتابع حديثها عن (عتابا الزيزفونة) قائلةً: "ربما وُصِفت هذه الشجرة بالقاسية لأنها تعيد إلينا ذكريات الأماكن القديمةِ وملامحَ من نحب بطريقة مؤلمة".

مي، المحبة للطبيعة بعيدًا عن مظاهر الحياة المدنية، اتخذت من الحديقة محطة يومية لتناول القهوة الصباحية أثناء ذهابها إلى العمل، ما جعلها تشهد تبدل المواسم والفصول، وتَجدّد أجواء الحديقة بشكل مستمر.

في موسم التوت، تتساقط الثمار مع كل نسمة هواء أو حركة غصن، و"تمطر السماء توتاً". يتبادل زوار الحديقة حبات التوت الملفوفةِ كهدايا مغلفةٍ بأقمشة بعد جمعها. تقول مي بابتسامة: "كانت تلك الثمار أطيب حبات توت تذوقتها في حياتي، كانت أحلى من العسل. إنها تفاصيل بسيطة تمنحني سكونًا لطيفا وتفتح أمامي أبواب الحديث مع غرباء يتشاركون حب المكان ذاته".

في زاوية الحديقة، تفوح رائحة "النرجيلة" المنبعثة من مقهى "ناستولوجي" أو "حنين"، لتكتمل أجزاء ذاكرة مي المبعثرة، حاملةً إياها إلى شارع "الحمرا" وسط حمص، ومقاهيه العابقة بنفس الرائحة.

تجد في كل خطوة تأملًا وهدوءًا. تتذكر وجوه أحبائها، لكنها تقول: "لا شيء يعوض عن مدينتي. هذه التفاصيل هي مسكنات فقط. أحب عينتاب لكنها لا تحبنا… ننتظر بقلق القرارات المتعلقة بوجودنا كسوريين في تركيا، والتي قد تشمل إجبارنا على العودة إلى سوريا، وهذا ما يؤلمنا"، في إشارة إلى الحملات الأمنية التي تشنها السلطات التركية على من تصفهم بأنهم يخالفون قوانين الإقامة فيها.

ينتهي اليوم، وتعود مي إلى منزلها، لكن الحديقة تظل جزءًا لا يتجزأ من حياتها، مكانًا يعيد إليها الأمل ويشعل فيها الحنين في آن واحد. "لن يتوقف بحثي عن الاستقرار، وسأظل أزرع الحب والذكرى في كل شجرة ألتقيها، فقد نجد ما نفتقده في أماكن لم نكن نتوقعها أبدًا". 


العلامات: #مشوار, #طبيعة, #لجوء, #زلزال, #حديقة, #تركيا_, #نهر_العاصي, #حمص, #صحفي


مقالات مشابهة

We have send a confirmation code to your email address, pleas enter the code here

Confirm