في شوارع إسطنبول، هذه المدينة الفاتنة، تحيط بك التماثيل الحجرية والبرونزية كسوار معصم يروي حكايا المدينة العتيقة. ربما يكون أكثر تلك التماثيل فكاهة ولفتًا للنظرهو تمثال نصر الدين هوجا، أو المعلم نصر الدين، الذي يقابله في ثقافتنا وحكاياتنا الشعبية شخصية "جحا" المشهورة بالحكمة والفلسفة وخفة الظل. تراه مرتديًا عِمامة كبيرة، جالساً على حماره بطريقة غير تقليدية، وكأنه في حوار داخلي مع العالم من حوله. في أحيانٍ كثيرة، يركب حماره بالمقلوب، ما يثير الابتسام والتأمل في آن واحد.
على شاطئ منطقة بيوك شيكمجي في إسطنبول، يقف تمثال نصر الدين متأملاً البحر، رافعًا إصبعه وكأنه يشرح شيئاً مهماً كعادته. هناك، حدثته عن مشاكلنا، نحن السوريين، عن اشتياقنا لوطننا ولمّة العائلات التي تفرقت في كل البلاد. أخبرته عن خوفي من الارتباط العاطفي بالبيت الذي أسكنه، وكيف تحولت غرفتي إلى مكان للمكاشفة والتعبير عن قلقي من مغادرة المنزل في أي لحظة، وفقاً لظرفي المتغير بسرعة كالبرق. كيف لا، وأنا اللاجئة التي لا يسعها التقاط أنفاسها قبل الخطوة التالية في مشوار النجاة.
بعد زيارات متكررة لهذا الشاطئ بالتحديد، وللمعلم والفيلسوف الساخر، أصبح هذا المكان هو مساحتي للهرب. أجلس بالقرب من التمثال على شاطئ البحر، أرمي أحمالي وأفكاري المشابهة لحركة الأمواج المتواترة تحت أقدام التمثال، والتي تتبّع بدورها إشارة إصبع المعلم، لترمي نفسها في البحر من جديد.
علمتني هذه الزيارات أن أول خطوة للنجاة هي أن أتوقف عن الكذب على نفسي، أن أعترف بأن إسطنبول قاسية بالرغم من جمالها اللا متناهي، وأن كل هذه الفتنة الطاغية الصارخة في كل شارع وحي وشاطئ لا تعادل ساعة في مدينتي الهادئة حمص، تلك المدينة الجميلة بأهلها وبمن تركها رغماً عنه.
أترك المعلم نصر الدين كل مرة، وإشارات الاستفهام تعلو رأسي: ماذا سيكون رأيه في ما يحصل معنا نحن المساكين أسرى جمال هذه المدينة، وأسرى قساوتها؟
العلامات: #نصر_الدين_هوجا, #جحا, #اسطنبول, #تركيا_, #تمثال, #بحر, #غربة, #لجوء, #حمص